فصل: الفصل الخامس: في الإقامة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


الفصل الثاني‏:‏ في حكمه

قال اللخمي‏:‏ الأذان خمسة أقسام‏:‏ سنة وهو الأذان في المساجد وعرفة ومنى، والعدد الكثير في السفر، والأئمة حيث كانوا ومختلف في وجوبه وهو أذان الجمعة، قال والأحسن وجوبه؛ لتعلق الأحكام كتحريم البيع، ووجوب السعي، ومستحب وهو أذان الفذ المسافر، ومختلف فيه هل هو مستحب أم لا‏؟‏ وهو أذان الفذ في غير السفر والجماعة التي لا تحتاج إلى إعلام غيرها والقولان لمالك قال‏:‏ والصواب عدم الاستحباب؛ لعدم حكمة الأذان، ومكروه وهو الأذان للفوائت والسنن، وأذان النساء فرق الفذ في السفر في موضع ليس فيه شعائر الإسلام، فشرع له إظهارها وسرايا المسلمين تقصده فيحتاج إلى الذب عن نفسه بخلاف الحاضر؛ فإنه مندرج في شعائر غيره وصيانته، وفي الجواهر عن جماعة من متأخري الأندلسيين والقرويين أن الأذان واجب؛ لإقامة شعائر الإسلام فإن فعله واحد منهم سقط عن جملتهم، قالوا‏:‏ وهو سنة مؤكدة في مساجد الجماعات، ومواضع الأئمة وحيث يقصد الدعاء للصلاة، وعن البغداديين أنه سنة، واختار القاضي أبو الوليد وجوبه على الكفاية في المساجد والجماعة الراتبة، وعلله بإظهار الشعائر وضبط الأوقات، وقال المازري‏:‏ في الأذان معنيان أحدهما إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية على تركه حتى يفعلوا إن عجز عن قهرهم على إقامة إلا بالقتال وهو مذهب ابن الطيب، وثانيهما الدعاء للصلاة والإعلام بوقتها، وهو جل المقصود منه، فحكى البغداديون أنه سنة عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، وفرض عند أهل الظاهر، ووقع لمالك في الموطأ أنه واجب ومعناه سنة مؤكدة وتأول بعض المتأخرين قول من قال‏:‏ أنه سنة بأن معناه ليس شرطا في الصلاة، ومنشأ الخلاف في قاعدتين‏:‏ إحداهما أنه عليه السلام أمر بالأذان بلالا وأبا محذورة وغيرهما، والخلاف بين الأصوليين في حمل الأمر على الوجوب أو على الندب، وثانيتهما أن الصلوات واجبة وصحتها متوقفة على معرفة دخول وقتها، والخلاف بين العلماء فيما يتوقف عليه الواجب المطلق وهو مقدور للمكلف هل يكون واجبا أم لا‏؟‏

سؤال إذا رتب الله تعالى وجوب شيء على سبب أو شرط لا يجب تحصيلهما ولا يبحث عنهما إجماعا كترتيب الرجم على الزنا والإحصان، والقطع على السرقة ونحوهما، فإنه لا يجب تحصيلهما ولا البحث عنهما، وإنما يجب تحصيل ما يتوقف عليه الواجب بعد تحقق سبب وجوبه كتوقف الحج، والجمعة على السعي لهما بعد تحقق وجوبهما وأسبابهما، فلو خولفت هذه القاعدة هاهنا فإن الأوقات أسباب الوجوب كالزنا، والسرقة والاستطاعة في الحج‏.‏ جوابه إن أسباب الوجوب على قسمين‏:‏ منها ما يجوز أن يعرى عنه المكلف في جملة عمره فلا يجب عليه البحث عنه كالسرقة ونحوها، ومنها ما يقطع بحصوله في الجملة من غير تعيين فيقطع بترتيب الوجوب في ذمته؛ لقطعه بسببه وإذا قطع بالوجوب تعين الإيقاع، فيتعين البحث عن تعيين السبب حتى لا يقع الفعل قبله فيكون معصية غير مجز، قال صاحب القبس‏:‏ روي أنه عليه السلام علمه الله تعالى الأذان ليلة الإسراء في السماء بهيئته وصفته، وكان بمكة مع بقية من الكفار فكانت الصلاة اختلاسا إلى بعد الهجرة، وفي الموطأ أنه عليه السلام أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما؛ ليجتمع الناس للصلاة، فأري عبد الله بن زيد خشبتين في النوم فقال‏:‏ إن هاتين لنحو مما يريده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل ألا تؤذنون للصلاة‏؟‏ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر عليه السلام بالأذان، وفي هذا الحديث عند أبي داود أنه عليه السلام اهتم كيف يجمع الناس للصلاة‏؟‏ فقيل له‏:‏ تنصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه، فذكر له القنع يعنى الشبور فلم يعجبه، وقال‏:‏ هو من أمر اليهود، وذكر له الناقوس فقال‏:‏ هو من أمر النصارى، وروي أن عمر قال‏:‏ ابعثوا رجلا ينادي بالصلاة يعنى بقول الصلاة الصلاة‏.‏ ويروى اتخذوا نارا مثل المجوس، ويروى نوروا بالليل، ودخنوا بالنهار‏.‏ ويروى أن عمر - رضي الله عنه - رأى مثل ابن زيد وتابعه من الصحابة - رضوان الله عليهم - في الرؤيا بضعة عشر‏.‏

فائدة‏:‏

قال الخطابي‏:‏ يروى القبع بالباء مفتوحة وبالنون ساكنة، قال‏:‏ وسمعت أبا عمر يقول‏:‏ الثبع بالثاء المثلثة والجميع اسماء للبوق، فبللنون من اقناع الصوت والرأس وهو رفعه، وبالباء من الستر يقال‏:‏ قبع رأسه في جيبه إذا أدخله فيه‏.‏

تمهيد‏:‏

هذا الحديث يدل على أنه عليه السلام كان يجتهد فيما به يعرف الوقت، وليس هذا من باب الاجتهاد في الأحكام كما ظنه أبو الطاهر وغيره من الفقهاء، وجعلوه من المسألة الأصولية هل له عليه السلام أن يجتهد في الأحكام أم لا‏؟‏ لان الحكم هو وجوب تعرف الوقت، وهذا لم يقع فيه اجتهاد بل وقع في الطرق المفضية إلى ذلك والطرق ليست أحكاما كما لو وجب علينا أن ننقذ الغريق فاجتهدنا في فعل ذلك هل يكون بسفينة أو بحبل أو خطام أو بالسباحة إليه‏؟‏ فان هذه ليست أحكاما، وإنما الحكم وجوب الإنقاذ، ولذلك يجتهد الناس في تعرف الوقت بالخطوط الموضوعة على الحيطان، والرخامات وسائر الآلات، ولا يعدون مجتهدين في الأحكام الشرعية فلما وقعت الرؤيا احتمل أن تكون وحيا من النبوة كما أقام عليه السلام يوحي إليه في أول نبوته ستة أشهر في المنام، وكما أوحي لإبراهيم - عليه السلام - في المنام بذبح ولده وعلم ذلك عليه السلام بوحي سابق أو بقرائن الأحوال تفيد القطع، أو الظن الغالب بأنها وحي فعدل عن الاجتهاد إلى الوحي، ويحتمل أن تكون الرؤيا منبهة على وجه المصلحة وليست وحيا، فرجع إليها عليه السلام؛ لرجحان ما دلت عليه من المصلحة، لا لكونها وحيا والمصلحة في ذلك أرجح من كل ما تقدم قبلها؛ لتحصيل ذكر الله تعالى، والشهادة بالرسالة، وإعلام الخلق، ومباينة شعائر الكفر، وإظهار اختصاص الأمة‏.‏ وفي البخاري‏:‏ المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة‏.‏ يروى بالكسر والفتح فالكسر معناه سرعة المشي ومنه أنه عليه السلام في حجة الوداع كان يسير العنق، فإذا وجد فرجة نص والفتح قيل هو على ظاهره فتطول أعناقهم حتى لا يصل العرق إلى أفواههم التي كانوا يؤذنون بها، وقيل أطول رجاء من قولهم تطاولت إليه الأعناق، وطال عنقي إلى رجائك، وقيل أطول أعناقا، وعبر بالعنق عن الصوت؛ لأنه محله، وفي أبي داود المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب، ويابس‏.‏ ومعناه يغفر له بسبب إسماعه ونشره لذكر الله في مد صوته؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، وشهادة الجمادات له يحتمل أن يخلق بها إدراكا وحياة عند الأذان فتضبط ذلك، ويحتمل ذلك يوم القيامة، وفي الموطأ أنه - عليه السلام - قال‏:‏ إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع النداء، فإذا قضي الأذان أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول‏:‏ اذكر كذا، واذكر كذا لما لم يكن يذكر، وحتى يضل الرجل أن يدري كم صلى‏.‏ والتثويب‏:‏ الإقامة وهو من الرجوع كما تقدم وهو يصدق على تكرار اللفظ في الأذان؛ لأنه رجوع إليه وعلى الدعاء الذي بعد الأذان؛ لأنه رجوع للفظ الأذان وعلى الإقامة؛ لأنها رجوع إلى الأذان، وقد روي إذا أقيمت الصلاة، ويروى يظل الرجل بالظاء القائمة بمعنى يصير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ظل وجهه مسودا‏)‏ ‏(‏فيظللن رواكد على ظهره‏)‏ ويروى يضل من الضلال بالضاد الساقطة‏.‏

فائدة‏:‏

لا يتوهم من هذا أن الأذان والإقامة أفضل من الصلاة؛ لهروب الشيطان فيها دون الصلاة؛ لأن المفضول قد يختص بما ليس للفاضل، كما قال عليه السلام‏:‏ أفضلكم علي، وأقرأكم أبي، وأفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل مع فضل أبي بكر على الجميع - رضي الله عنهم أجمعين - وكذلك تعرض الشيطان له عليه السلام في صلاته، فهم يربطه، ثم تركه كما جاء الحديث الصحيح‏:‏ وإذا سلك عمر - رضي الله عنه - فجا سلك الشيطان فجا غيره‏.‏ فهروبه من عمر وإلمامه به - عليه السلام - كهروبه من الأذان وتسلطه في الصلاة‏.‏ وفي الموطأ ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء، وقل داع ترد عليه دعوته حضرة‏:‏ النداء بالصلاة، والصف في سبيل الله‏.‏ ويروى في تهذيب الطالب‏:‏ ونزول الغيث، وقراءة القرآن‏.‏

فرع‏:‏

اختلف العلماء أيهما أفضل الأذان، أم الإمامة‏؟‏ فقيل‏:‏ الأذان، واختاره صاحب تهذيب الطالب؛ لاشتماله على حق الله تعالى في التكبيرات، والشهادة بالتوحيد وحقه عليه السلام في الشهادة له بالرسالة، وحق العباد في الإعلام بالوقت في حق النساء، والمنفردين والدعاء للجماعة في حق المقتدين بخلاف الإمامة؛ فإن الإمام لم يتحدد له إلا الجهر بالذكر للإعلام بالأذكار، ولذلك قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لولا الخليفة لكنت مؤذنا أي‏:‏ الخلافة‏.‏

سؤال‏:‏ لم كان عليه السلام مؤذنا‏؟‏ لأن أفضل الخلق شأنه المواظبة على أفضل الأعمال بل كان إماما ولم يؤذن إلا مرة واحدة في سفره‏.‏

جوابه من وجوه أحدها‏:‏ أن الأذان مشتمل على دعاء الناس إلى الصلاة فلو أذن لكان التخلف على إجابته شديد الحرج، فكان يشق على الناس، وثانيها‏:‏ أنه إن قال‏:‏ أشهد أني محمد رسول الله غير نظم الأذان، وإن قال‏:‏ أشهد أن محمد رسول الله أوهم رسالة غيره، وثالثها‏:‏ أن الأذان يحتاج إلى رصد ومراقبة، والاشتغال بأعباء الرسالة، ومصالح الأمة يمنع من ذلك بخلاف الإمامة، وقيل الإمامة أفضل؛ لإفادتها فضل الجماعة وهي خمس وعشرون درجة، ولم يثبت ذلك للأذان‏.‏

الفصل الثالث‏:‏ في صفة المؤذن

ففي الجواهر يشترط أن يكون مسلما، عاقلا، مميزا، ذكرا، بالغا، عدلا، عارفا بالمواقيت، صيتا حسن الصوت فلا يعتد بأذان كافر، أو مجنون، أو سكران، أو مختبط أو امرأة، وقال أشهب‏:‏ لا يؤذن الصبي، ولا يقيم إلا مع النساء أو في موضع ليس فيه غيره‏.‏ وجوز مالك في الحاوي الأذان له، والقاعد، والراكب، والجنب ومنع الإقامة ومنع في الكتاب أذانه، وقال‏:‏ لأن المؤذن إمام وهو لا يكون إماما وهو قول الشافعي، وإن جوز إمامة الصبي حجة المنع ما في أبي داود قال عليه السلام‏:‏ المؤذنون أمناء ‏.‏ وقال‏:‏ يؤمكم اقرأكم ويؤذن لكم خياركم ‏.‏ وهذا حجة لسائر الشروط، وأنه ليس له وازع شرعي فيحيل الوثوق بأمانته على الأوقات، ولأنها ولاية على وسيلة أعظم القربات، وهو ليس من أهل الولايات حجة الجواز ما رواه ابن المنذر بإسناده عن عبيد الله بن أبي بكر قال‏:‏ كان عمومتي يأمرونني بالأذان لهم، وأنا لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد ولم ينكر، ولأنه ذكر الله وخبر عن أمر واقع يصحان منه كما تصح أخباره في الاستئذان والوسائل وغير ذلك قاله صاحب الطراز، ولأنه من أهل التنفل بالصلاة، فيكون من أهل التنفل بالأذان بطريق الأولى؛ لأن الوسائل أخفض من المقاصد حجة الفرق بين الأذان والإقامة‏:‏ أنها آكد من الأذان للزومها للفذ حتى قيل إن تركها عمدا بطلت صلاته حجة تفرقة مالك في رواية أشهب عنه‏:‏ أن الحاجة قد تدعو إليه في هذه الحالة‏.‏

فروع خمسة‏:‏

الأول‏:‏ قال صاحب الطراز يستحب حسن الهيئة، فقد قال أشهب‏:‏ من أذن وأقام في ثياب شعر أو سراويل فليعد إن لم يصلوا، وخالفه ابن القاسم‏.‏

الثاني‏:‏ لم يكره في الكتاب أذان الأعمى، قال‏:‏ وكان مؤذنه - عليه السلام - أعمى - يعني ابن أم مكتوم - قال صاحب الطراز‏:‏ ليس فيه خلاف إذا كان أمينا إلا أنه لا يرجع في الوقت إلى ما يقع في نفسه، بل يستخبر الثقة ويتثبت وفضلهما أشهب على البعد إذا سددوا الوقت والقبلة، وفضل العبد إذا كان رضى على الأعرابي، والأعرابي إذا كان رضى على ولد الزنا‏.‏

الثالث‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ظاهر المذهب كراهية أذان النساء خلافا لـ ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ غير أن الشافعي قال‏:‏ لا يجزئ عن الرجال حجتنا أن رفع صوتها مكروه مع الاستغناء عنه لما فيه من الفتنة ومن ترك الحياء‏.‏

الرابع‏:‏ في الجواهر للإمام‏:‏ أن يستأجر على الأذان من بيت المال، واختلف في إجارة غيره من آحاد الناس على الأذان والصلاة، فالمشهور المنع من الصلاة منفردة والجواز في الأذان منفردا ومع الصلاة، وعند ابن عبد الحكم الجواز فيهما مطلقا، وعند ابن حبيب المنع فيهما مطلقا وهو قول أبي حنيفة، وتردد النقل عن الشافعي قال صاحب الطراز‏:‏ واتفق الجميع على جواز الرزقة وقد أرزق عمر بن الخطاب المؤذنين وكذلك تجوز الرزقة للحاكم، وإن امتنعت الإجارة على الحكم حجة المشهور أنه فعل يجوز التبرع به عن الغير فلا يكون كونه قربة مانعا من الإجارة فيه قياسا على الحج عن الغير، وبناء المساجد، وكتب المصاحف والسعاية على الزكاة، ويمتنع في الإمامة مفردة؛ لأن فعل الإمام فعل المنفرد، وفعل المنفرد لا يجوز أخذ الأجرة عليه حجة من جوزها منفردة ملاحظة التزامه للمكان المعين وهو غير مأمور به عينا، فجاز أخذ الأجرة عليه، قال المازري‏:‏ قال بعض أشياخي‏:‏ يرتفع الخلاف في المنع إذا كان، ثم فعل لا يلزم المصلى كما يرتفع الخلاف في الجواز إذا لم يزد على الواجب حجة المنع، ما في أبي داود والترمذي عن عثمان بن أبي العاصي أنه قال‏:‏ من آخر ما عهد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، وصححه الترمذي‏.‏ وإذا امتنع في الأذان امتنع في الإمامة بطريق الأولى؛ لكونها أدخل في باب التقرب والتعلق بالذمة، وبالقياس على الجهاد‏.‏

وجوابه‏:‏ أنه محمول على الورع ونحن نقول به، وعن الثاني أن الجهاد يتعين بالحضور بخلاف الأذان والإمامة‏.‏

فرع مرتب‏:‏

في الجواهر‏:‏ إذا فرعنا على المشهور واستؤجر عليها، ثم طرأ ما يمنع الإمامة فهل يحط من الأجرة بسبب عجزه قولان للمتأخرين مبنيان على الأتباع هل لها حظ من الثمن أم لا‏؟‏ قال المازري‏:‏ احتج القائل بعدم الحط بما وقع في المذهب أن من اشترى عبدا له مال، أو شجرا مثمرا فاستحق المال من يد العبد، وجائحة تصيب الثمرة لا يوجبان حطيطه من الثمن، واحتج الآخر بأن حلية السيف التابعة له إذا استحقت فلها حطها من الثمن، وكذلك سلعة من صفقة فيها سلع، قال‏:‏ إنما سقط اعتبار الأولين؛ لأن الثمرة مضمونة بالقبض لما لم يكن على البائع سقي، وأن العبد مالك، وإنما وقعت المعاوضة على تقدير يده على ماله وهذا قد فعله البائع ولم يبطل قال‏:‏ وقد قال بعض المتأخرين‏:‏ الأحسن الحطيطة بقدر ما يعلم أن المشتري زاده لأجل المال قياسا على ما إذا تعذر على المرأة شوارها فإنه يسقط من الصداق قدر ما يعلم أن الزوج زاده لأجله، مع أن الزوج لا يملك انتزاعه قال المازري‏:‏ واعلم أن كون الأتباع مقصودة بالأعواض أمر مقطوع به بل، نقول التبع قد يرتفع عنه التحريم الثابت له منفردا كحلية السيف التابعة له، فإنه يحرم بيعها منفردة بجنسها، ويجوز تبعا قال صاحب النكت‏:‏ يحط من الأجرة بقدر الإمامة، والفرق أن الإمامة لو عقد عليها منفردة صح وكره، بخلاف الثمرة ومال العبد‏.‏

الخامس من البيان‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا كان المؤذنون إذا صعدوا المنار، عاينوا ما في الدور وطلب أهلها منعهم من الصعود، منعوا وإن كان بعض الدور على البعد بينهم الفناء الواسع، والسكة الواسعة؛ لأن هذا من الضرر المنهي عنه‏.‏ قال صاحب البيان‏:‏ وهذا على أصل مالك في أن الاطلاع من الضرر الواجب الإزالة ومن يرى من أصحابه أن من أحدث اطلاعا على جاره لا يقضى عليه‏:‏ ويقال للجار‏:‏ استر على نفسك يفرق بأن المؤذن ليس بمالك بل طالب مندوبا بفعل محرم قال‏:‏ وهذا حكم الدور البعيدة إلا أن لا يتبين فيها الذكور من الإناث، والهيات‏.‏

الفصل الرابع‏:‏ فيما يؤذن له

وهو الصلوات المفروضة على الأعيان المؤداة في مساجد الجماعات والأئمة حيث كانوا، فالمفروضة احتراز من النوافل؛ لعدم التوقيت فيها، وأما صلاة العيدين فتوفر الدواعي عليها مغن عن الإعلام، ولا ينادى لها‏:‏ الصلاة جامعة وعلى الأعيان احتراز من صلاة الجنازة؛ لعدم تعين وقتها حتى يعلم به بل سنتها وجود الميت لا الوقت والأذان، إنما هو إعلام بالأوقات‏.‏ وقولنا المؤادة احتراز من الفوائت ففي الكتاب‏:‏ من نسي صلوات كثيرة تجزيه الإقامة لكل صلاة بلا أذان، وعند أبي حنيفة يؤذن لها، وتردد الشافعي‏.‏ وقد اختلفت الرواية في صلاته - عليه السلام - يوم الوادي لما ناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس هل أذن لها أم لا‏؟‏ ففي الموطأ‏:‏ أمر بالإقامة فصلى بهم، ولم يذكر أذانا، وفي أبي داود‏:‏ ذكر الأذان وهو منسوخ بقوله - عليه السلام - بعد صلاته بهم‏:‏ من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى يقول‏:‏ أقم الصلاة لذكري ‏.‏ وهو يقتضي عدم الاشتغال بغيرها، والأذان شغل عنها‏.‏ وقولنا في جماعات المساجد احتراز من الواحد إذا صلى وحده في المسجد فإنه يكتفي بالإقامة‏.‏ وروي عن الشافعي أنه يؤذن سرا‏.‏ وقولنا والأئمة حيث كانوا ففي الكتاب‏:‏ إذا خرج إمام المصر في الجنازة فتحضره الصلاة يؤذن لها ويقام‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ قيل هو إمام الجامع المجمعة؛ لأنه الذي جعل له صلاة الجنازة فيتوقى أمره ليجتمع له الناس، وكذلك كل إمام مشهور يؤذن له ليجتمعوا‏.‏

فروع أربعة‏:‏

الأول قال في الكتاب‏:‏ لا ينادى لصلاة قبل وقتها إلا الصبح، ووافقه الشافعي وخالفنا أبو حنيفة وسوى بين سائر الصلوات لما في البخاري أنه - عليه السلام - قال‏:‏ إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر قال ابن القاسم‏:‏ ولم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا، وفي بعض طرقه وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له‏:‏ أصبحت أصبحت‏.‏ وإجماع أهل المدينة على ذلك ينقله الخلف عن السلف نقلا متواترا، ولما أطلع أبو يوسف على ذلك رجع عن مذهب أبي حنيفة وهي تأتي في وقت نوم وحاجة إلى الاغتسال؛ لكثرة الاجتماع بالنساء ليلا، وفي الناس البطيء والسريع، والفضيلة في التلغيس فيتعين الأذان قبل الفجر احتج أبو حنيفة بما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال لبلال‏:‏ لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر ومد يديه عرضا، ولأن الأذان قبل الوقت كذب فيحرم‏.‏

وجواب الأول‏:‏ أن الحديث طعن فيه أبو داود وغيره، ولو سلمنا صحته فيحمل الأذان على الإقامة لما بينهما من المشابهة، ولأنها إعلام في نفسها والإعلام هو الأذان جمعا بينه وبين الأحاديث الصحيحة، وعن الثاني أنه إعلام بوقت التأهب للصلاة، لا بوقت فعلها فليس كذبا‏.‏

فرع‏:‏

إذا قلنا بتقديم أذانها على وقتها قال صاحب الطراز‏:‏ الأحسن أن يكون آخر الليل غير محدود، وإليه أشار مالك في الموطأ محتجا بقوله عليه السلام‏:‏ لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال‏.‏ والسحور آخر الليل، وقال ابن وهب سدس الليل الأخير، وقال ابن حبيب‏:‏ من حين خروج وقت العشاء نصف الليل، ونقل المازري يؤذن لهما بعد العشاء وإن صليت أول الليل لقوله عليه السلام‏:‏ إن بلالا يؤذن بليل من غير تحديد، ولأنها عبادة متعلقة بالفجر فجاز تقديم ما يتعلق بها كالنية مع الصوم‏.‏

وجوابه أن الأذان حينئذ إعلام بالتأهب للنوم، لا للصلاة، فهو على خلاف حكمة الأذان فلا يشرع‏.‏

الثاني‏:‏ أنكر في الكتاب تقديم أذان الجمعة على الزوال خلافا لابن حبيب؛ فإنه جوز أذانها قبل الزوال، وهو فاسد؛ لأنها إن كانت ظهرا فحكمها حكم الظهر، وإن كانت بدلا والبدل يتبع المبدل‏.‏

الثالث‏:‏ في الجواهر إذا جمع الإمام بين الصلاتين يؤذن لكل واحدة منهما، وهو في الكتاب والأولى فقط عند ابن الماجشون، ولا يؤذن مطلقا حكاه صاحب الجلاب ويقيم لكل صلاة، قال المازري‏:‏ وهذه المقالات محكية في جمعه عليه السلام، وفي المدونة وأما غير الإمام فتجزئهم إقامتان للمغرب والعشاء، وعن أبي حنيفة تكفي إقامة الأولى‏.‏

حجة المذهب‏:‏ أن الأذان للصلاة في حق الأئمة من شعائرها، فلا يترك مع إمكانه، ولا يمنع منه توفر الجمع للثانية كما لا يمنعه للأولى، وقياسا على الإقامة‏.‏

حجة الثاني‏:‏ ما في مسلم عن جابر لما وصف حجة النبي - عليه السلام - على الاستقصاء فقال في الجمع بعرفة، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا، وقال فيه حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا‏.‏

حجة الثالث‏:‏ ما في مسلم أنه عليه السلام جمع بمزدلفة فلم يذكر أذانا، وذكر الإقامة لكل صلاة، ولأن الأذان إعلام للغائب والجمع إنما هو لمن حضر‏.‏

حجة الرابع‏:‏ ما في الموطأ أنه عليه السلام صلى المغرب ثلاث ركعات بالمزدلفة، وصلى العشاء ركعتين بإقامة واحدة وهو يحتمل بإقامة واحدة لكل صلاة، ولأن الجمع يوجب تعلق إحدى الصلاتين بالأخرى فكأن الإقامة الأولى وقعت لهما جميعا‏.‏

الرابع‏:‏ قال ابن القاسم في العتبية في قوم بنوا مسجدا فتنازعوا فيه فاقتسموه بجدار ليس لهم قسمته‏.‏ قال أشهب‏:‏ فإن فعلوا لم يجزهم مؤذن واحد، وكذلك مسجدان متلاصقان أو مسجد فوق مسجد؛ لأن الأذان من شعائر المساجد‏.‏

الفصل الخامس‏:‏ في الإقامة

ففي الجلاب هي عشر كلمات يريد عشر جمل من الكلام، وإلا فهو اثنان وثلاثون كلمة، وهذا مجاز مشهور من باب تسمية الكل باسم الجزء كما أن العرب تسمي القصيدة كلمة، وهي مرة مرة إلا التكبير خلافا لـ ‏(‏ح‏)‏ في قوله هي مرتين وكذلك قد قامت الصلاة، وخلافا لـ ‏(‏ش‏)‏ في قوله هي مرة مرة إلا التكبير والإقامة‏.‏ لنا ما في مسلم أنه - عليه السلام - أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏.‏ والأحاديث قد وردت على وفق المذاهب كلها لكن أرجحها ما وافق عمل المدينة، وفي الجلاب هي سنة آكد من الأذان، وفي الكتاب ليس على النساء أذان، ولا إقامة وإن أقمن فحسن، وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر، وجماعة من السلف‏:‏ أن المرأة ليس عليها أذان، ولا إقامة واستحسان إقامتهن للشافعي، وأبي حنيفة أيضا إذا أقمن لأنفسهن، لا للجماعات؛ لأنهما ذكر فأشبهت النسخ قال صاحب الطراز‏:‏ وروي عن مالك عدم الاستحسان؛ لأن أزواجه - عليه السلام - لم ينقل عنهن ذلك، قال‏:‏ والفرق بين المرأة والصبي في كونه يقيم أن الصبي يؤمر بذلك بعد البلوغ فيمرن عليه قبل البلوغ، ولأن الصبي لا ينكر رفع صوته‏.‏

فروع عشرة‏:‏

الأول‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ لا بأس أن يقيم غير من أذن خلافا لـ ‏(‏ش‏)‏ في الكراهة محتجا بما في أبي داود أن زياد بن الحارث قال‏:‏ أمرني عليه السلام أن أذن في صلاة الصبح فأذنت، فأراد بلال أن يقيم فقال عليه السلام‏:‏ إن أخا صداء أذن فمن أذن فهو يقيم‏.‏

وجوابه أنه يدل على جواز أمر الإمام بذلك؛ لأنه تصرف بالإمامة منه عليه السلام لا بالفتوى؛ لأن زيادا كان حديث عهد بالإسلام، فأراد عليه السلام تأليفه لما في أبي داود من حديث عبد الله بن زيد المازني حين رأى الأذان في منامه، فأمره عليه السلام أن يلقيه على بلال ففعل فأذن بلال، فقال عبد الله‏:‏ أنا رأيته وأنا كنت أريده، فقال عليه السلام‏:‏ فأقم أنت‏.‏ ولأنها عبادة مستقلة عن الأذان بدليل توجهها على المنفرد دونه فجاز أن يقعا من اثنين كالإقامة والإمامة‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ لا يقيم راكبا، وفي الجلاب روايتان، وروى ابن وهب في المدونة عن سالم بن عبد الله أنه كان ينادي بالصلاة على البعير فإذا نزل أقام، وإن ابن عمر كان يفعله؛ لأن السنة إيصال الإقامة بالصلاة، والنزول عن الدابة وعقلها وإصلاح المتاع طول‏.‏

الثالث‏:‏ إذا كان المستحب إيصالها بالصلاة فهل يبعد المؤذن عن الإمام مثل الجامع الواسع يخرج إلى بابه، أو يصعد على سطحه فيقيم‏؟‏ قال ابن القاسم‏:‏ يفعل إن كان يسمع من حوله وإلا فهو خطأ، وقال مالك في المجموعة‏:‏ وأشهب يقيم في الصحن، وفي الموطأ أن عبد الله بن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى المسجد، ولو كانت الإقامة في داخل المسجد لم يسمعها‏.‏

وفي مختصر ابن عبد الحكم لا بأس بالكلام الخفيف بعد الإقامة، ما لم يحرم الإمام فإذا أحرم فلا يتكلم أحد، ولا يقيم في المسجد بعد إقامة المؤذن‏.‏

الرابع‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إن نسي الإقامة فلا شيء عليه، وإن تعمد فليستغفر الله ولا شيء عليه‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ وعند ابن كنانة يعيد في الوقت والأول أصح فقد جوز النخعي، والشعبي، وابن حنبل، وأصحاب الرأي للفذ ترك الإقامة وبالقياس على الأذان‏.‏

فرع مرتب‏:‏

قال‏:‏ فلو ظن أن ذلك يؤثر نقصا فسجد له بعد السلام فلا شيء عليه، وقال في مختصر الطليطلي‏:‏ يعيد؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ليس منها كمن زاد جاهلا‏.‏

الخامس‏:‏ قال‏:‏ لو تركها جهلا حتى أحرم، قال مالك في المجموعة‏:‏ لا يقطع، قال‏:‏ ولو أنه بعد إحرامه أقام وصلى فقد أساء وليستغفر الله تعالى‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ يريد أنه أقام، ثم أحرم بعد ذلك فيكون قد خرج من الإحرام الأول بنيته، وقوله المنافي له حي على الفلاح قد قامت الصلاة ولو تمادى على إحرامه الأول أعاد الصلاة‏.‏

سؤال‏:‏ كيف يطلق لفظ الاستغفار المختص بالذنوب في ترك السنن، وتركها ليس ذنبا حتى يستغفر‏؟‏

جوابه‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى يحرم العبد من التقرب إليه بالنوافل، والفرائض عقوبة له على ذنبه ويعينه على التقرب بسبب طاعته؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏)‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فأما من أعطى واتقى‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فسنيسره لليسرى‏)‏ ‏(‏وأما من بخل واستغنى‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فسنيسره للعسرى‏)‏ فإذا استغفر من ذنوبه غفرت له بفضل الله، وأمن حينئذ من الابتلاء بالمؤاخذة بالحرمان‏.‏

السادس‏:‏ من خاف فوات الوقت ترك الإقامة، قال أشهب في المجموعة‏:‏ تقديما للفرض على فضيلة الإقامة ويشكل عليه ترك الإسراع الشديد وإن فاتته الجمعة حفظا للخشوع‏.‏

السابع‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا دخل المسجد وقد صلى أهله لا تجزئه إقامتهم‏.‏

وهذا يدل على تأكد الإقامة، وقال في المبسوط‏:‏ يقيم أحب إلي‏.‏ وجه الأول‏:‏ أنها أهبة للصلاة ولذلك شرعت في الفوائت‏.‏ وجه الثاني‏:‏ أنها دعاء للصلاة وهذا إنما يتصور في حق الفذ وهو مذهب أبي حنيفة، وكذلك قال في الكتاب‏:‏ من صلى في بيته لا تكفيه إقامة أهل مصر، وللشافعي في ذلك قولان؛ لأن المسجد قد أدى فيه حق الإقامة فلا تتعدد بتعدد الفذ كما لا تتعدد بتعدد الجماعة الكائنين في المسجد‏.‏

حجة المذهب‏:‏ أنه ليس معهم في صلواتهم فأشبه مسجدا آخر ومسافر مع مقيم‏.‏

الثامن‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ ينتظر الإمام بعد الإقامة قليلا قدر ما تستوي الصفوف، ثم يكبر ولا يكون بين التكبير والقرآن شيء، وقد كان عمر وعثمان - رضي الله عنهما - يوكلان رجلا لتسوية الصفوف، فإذا أخبروهما بذلك كبرا وكذلك قال الشافعي، وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة كبر الإمام، محتجا بما يروى أن بلالا قال‏:‏ يا رسول الله إنك لتستغني بأمين ولا يصدق المؤذن في قوله قد قامت الصلاة لنا ما في الصحيحين أنه قال‏:‏ إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت، وهذا دليل على تأخر خروجه ولأن المنفرد لا يحرم حتى يفرغ، وكذلك الجماعة وجوابهم أن الحديث ليس في الصحاح، ولا مشهور ولعل السبق يتفاوت بقراءتهما لا بتعجيل الإحرام، وأما التصديق فإن معنى قد قامت الصلاة تأهبوا لها كما نقول قد قامت الحرب فالكل صادق سواء أحرم الإمام أو تأخر فإذا كانت إخبارا عن التأهب فهو حاصل فلا كذب في التأخر، وأما تسوية الصفوف ففي مسلم كان عليه السلام يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول‏:‏ استووا في الصفوف، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم‏.‏ وفي البخاري رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه‏.‏ وفي أبي داود أنه عليه السلام قال‏:‏ أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله ‏.‏

التاسع‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ لا توقيت لقيام الناس إذا أقيمت الصلاة فإن فيهم القوي والضعيف، وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قال المؤذن حي على الفلاح قام الإمام فإن ذلك أمر بالمسارعة فيمتثل، وقال زفر عند قوله قد قامت الصلاة، وقال مالك في المجموعة‏:‏ يقومون بقدر ما إذا استوت الصفوف وفرغت الإقامة‏.‏

العاشر‏:‏ قال صاحب البيان‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا أقيمت عليه صلاة وهو في صلاة أخرى إن طمع في فراغها قبل ركوع الإمام الركعة الأولى أتمها ودخل مع الإمام لوجوبها عليه قبل الحاضرة، وإن يئس قطعها ودخل معه، ثم استأنف الصلاتين قال ابن القاسم‏:‏ وأحب إلي أن يتمها ركعتين إن كان قد ركع لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تبطلوا أعمالكم‏)‏‏.‏ إلا أن يخاف فوات ركعة الإمام فيقطع من ركعة بسلام قال‏:‏ فإن كان يصلي تلك الصلاة بعينها ففي المدونة إن لم يركع قطع، وإن أمكنة صلاة ركعتين قبل ركوع الإمام قال صاحب البيان‏:‏ وصلاته مع الإمام إنما هي نافلة لامتناع صلاة العصر قبل الظهر، وقد قال في المدونة‏:‏ لا يصلي نافلة ولم يصلي الفريضة، وإنما جوزنا هاهنا ذلك لما في الخروج من المسجد بعد الإقامة من تعريضه لسوء الظن، ولم يلتفت إلى هذا المعنى في المدونة، وقال في سماع سحنون يضع يده على أنفه ويخرج‏.‏

الثالث‏:‏ في شروط الصلاة

الشرط في اللغة العلامة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فقد جاء أشراطها‏)‏ أي‏:‏ علاماتها قد تقدم في المقدمة حقيقته اصطلاحا وشروطها، وهي عشرة‏:‏ الأول العلم بدخول الوقت فإن الوقت سبب والعلم بدخوله شرط، قال صاحب التلقين وهو كما قال، وقال ابن القصار في تعليق‏:‏ لا يجوز لعالم، ولا عامي أن يقلد في وقت الظهر؛ لأنه شاهد بالحس فالوصول إلى اليقين ممكن فلا يجوز التقليد‏.‏ الثاني طهارة الحدث وقد تقدم حكمها وهي شرط في الابتداء والدوام، فلو زالت عمدا أو سهوا أو غلبة بطلت الصلاة‏.‏ الثالث طهارة الخبث في الجسد والثوب والمكان، وقد تقدم كثير من فروعها في الطهارة، ونذكر هاهنا نبذة منها أما الجسد ففيه فروع أربعة وفصل‏:‏ الفرع الأول ففي الكتاب إذا سال أو قطر فيغسله عنه، ثم يبني، وقال القاضي أبو بكر‏:‏ إن كان يسيرا فتله ومضى قياسا على كان كثيرا فقيل يقطع، قال وهو الأقيس، وقيل يغسله ويتمادى على الرعاف‏.‏ الثاني من انكسر عظمه فجبر بعظم ميتة، قال صاحب الإشراف وأبو حنيفة لا يجب عليه كسره، وقال الشافعي‏:‏ يكسر وينزع إذا خاف المشقة دون التلف، وقال بعض أصحابه‏:‏ يقلعه وإن أدى إلى التلف حجتنا أنه جرح فيسقط كدم الجراح، ولأنه صار باطنا فأشبه ما لو أكل ميتة الثالث، قال صاحب الطراز‏:‏ إذا سقطت السن فهل يجوز له ردها‏؟‏ على قولنا إن الإنسان لا ينجس بالموت، قال الظاهر‏:‏ إنه لا يجوز وهو قول الشافعي؛ لأن ما أبين عن الحي فهو ميتة، وأجازه أبو حنيفة وهو مقتضى مذهب ابن وهب وابن المواز؛ لأنه ينجس جملته بالموت وكذلك بعضه بخلاف الأنعام؛ فإن جملتها تنجس بالموت فينجس جزؤها إذا انفصل منها وهي حية‏.‏ الرابع في الجواهر لو جعل في حزامه المرتك المعمول من عظام الميتة أو غيرها من النجاسات فلا يصلي به حتى يغسله، وأجاز ابن الماجشون الصلاة به‏.‏

فصل في الرعاف‏:‏

ففيه ثلاثة عشر فرعا، الأول في اشتقاقه وهو مأخوذ من الرعاف الذي هو السبق فقول العرب فرس راعف إذا كان يتقدم الخيل، ورعف فلان الخيل إذا تقدمها، وقال رعف يرعف بفتح العين في الماضي وضم المستقبل وفتحه والشاذ الضم فيهما، ولما كان الدم يسبق إلى الأنف سمي رعافا‏.‏ الثاني قال اللخمي‏:‏ الدم في الرعاف أربعة أقسام‏:‏ يسير يذهبه الفتل ففي الجواهر يستوي فيه الظن والشك فإنه يفتله، وكثير لا يذهبه الفتل ولا يرجى انقطاعه لعادة تقدمت فهذان لا يخرج لهما من الصلاة يفتل الأول على رؤوس الأنامل، ويكف الآخر ما استطاع، وكثير يذهبه الفتل؛ لثخانته ففيه قولان، فكان ابن الماجشون يمسحه بأصابعه حتى تختضب فيغمسها في حصباء المسجد ويردها، وقال مالك‏:‏ لا أحب ذلك فراعى مالك قدر النجاسة وتفاحشها، وراعى عبد الملك المواضع دون القدر‏.‏ وكثير يذهبه الفتل فهذا يخرج لغسله ويبني على صلاته بعد الغسل إن شاء، والأحسن أن يتكلم ويخرج من الصلاة؛ فإنها رخصة على خلاف الأصول غير لازمة، وإذا خرج فله شروط ستة‏:‏ أن يمسك أنفه، وأن يغسل في أقرب المواضع، وأن لا يمشي على نجاسة، وأن لا يتكلم عمدا ولا سهوا، وأن لا يتلطخ كثير من جسده أو ثيابه، وأن لا يبعد المكان جدا، ولا يشترط استقبال القبلة قاله اللخمي وصاحب الطراز، ووافقنا الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ تبطل طهارته ويتوضأ، ويبني بناء على أن الخارج النجس يبطل الوضوء‏.‏ وقد تقدم الكلام عنه لنا ما يروى عن ابن عباس وابن عمر وابن المسيب وجماعة من التابعين، من غير نكير فكان إجماعا وهو مذكور في الموطأ أيضا مثل هذا في مخالفة الأصول لا يقدم السلف عليه إلا بتوقيف ظاهر، فإن كان تكلم لما خرج قال في الكتاب‏:‏ إذا تكلم الإمام حين خروجه بطلت صلاته، قال صاحب الطراز‏:‏ تبطل عند ابن الماجشون عمدا أو سهوا، إماما أو منفردا، وقال سحنون‏:‏ إذا تكلم سهوا في غسل الدم والمستخلف لم يفرغ من صلاته حمله عند خليفته، وفي كتاب ابن سحنون‏:‏ إذا تكلم الراعف قبل فراغ الإمام حمله الإمام عنه قال ابن حبيب‏:‏ إن تكلم في ذهابه ناسيا بطلت، وإن تكلم في رجوعه لم تبطل وجه البطلان مطلقا انسلاخه من هيئة المصلين بالرعاف والكلام وقد جاء في الحديث إن كان مطعونا عليه من إصابة قيء أو رعاف فلينصرف، وليتوضأ، وليبن ما لم يتكلم‏.‏

ورأى ابن حبيب أن حالة الرجوع إقبال على الصلاة فيكون الكلام منافيا لها، بخلاف الذهاب‏.‏ ويرد عليه أن الإمام لو سها - والمأموم راجع - فوجد الإمام قد سلم لم يلزمه سهوه قاله صاحب الطراز، وقال ابن يونس‏:‏ لو أبطل الإمام صلاته عمدا حالة خروج المأموم بطلت عليه خلافا لسحنون، ولو مشى على عشب يابس بطلت صلاته عند سحنون، خلافا لابن عبدوس وقد جاء في الحديث أنه عليه السلام قال‏:‏ إذا جاء أحدكم المسجد فإن كان ليلا فليدلك نعله، وإن كان نهارا فلينظر إلى أسفلها‏.‏ فدل ذلك على المسامحة في الرطب إذا دلك فضلا عن العشب وقد تقدم في الطهارة معنى العشب ولم يفرق، وأما في الجواهر فقد حكي في الكلام سهوا والمشي على النجاسة ثلاثة أقوال تبطل مطلقا، لا تبطل مطلقا التفرقة بين الرجوع فتبطل، وبين الذهاب فلا تبطل ولم يعين لا إماما ولا غيره، وكذلك أبو الطاهر‏.‏

تفريع‏:‏

فإن آثر الراعف ابتداء الصلاة من أولها فليأت بما ينافيها لئلا يكون قد زاد في الصلاة ما ليس منها، وقال ابن القاسم في المجموعة‏:‏ فإن ابتدأها، ولم يقطعها فسدت وإن آثر التمادي حيث قلنا له الخروج فإن وقف الدم فتله على أنامله، فإن زاد قال مالك في الموازية‏:‏ يفتله على أربع أصابع إلى الأنملة فإن وصل إلى الوسطى أعاد صلاته احتياطا، قال صاحب النكت إذا زاد على الأنامل الأول وابتلت الأصابع كلها أو جلها لا يباح له البناء، قال صاحب الطراز‏:‏ هذا التحديد عسير بل يقال ما لا يزيد على رؤوس الأنامل لا يجب أن ينصرف منه؛ لأنها حالة السلف وهو يقدر على أن يفتله بإبهامه، فإن عسر فتله وجب الانصراف، فإن لم ينصرف فسدت الصلاة قال‏:‏ وهذا الفتل إنما شرع في مسجد محصب غير مفروش حتى ينزل المفتول في ذلك الحصباء، أما المفروش فيخرج من أول ما يسيل أو يقطر أحسن؛ لأنه ينجس الموضع وحيث قلنا لا يخرج لكون الدم لا ينقطع بغسل ولا غيره فأضر به الدم، قال صاحب الطراز‏:‏ قال ملك يوصي بالصلاة وكان ابن المسيب يأمر بذلك في هذه الحالة، واختلف في تفسير الضرر الذي أشار إليه فقال محمد بن مسلمة‏:‏ معناه في جسمه كالأرمد إذا سجد يتضرر رأسه ووجهه وكذلك هذا، ولأن المواد تنصب إلى الوجه والأنف حالة الركوع والسجود فتكثر الدماء فيضربه الاستفراغ، وقال غيره‏:‏ بل معناه يتضرر بالتلويث كما قلنا في الطين الخضخاض يصلي فيه إيماء؛ ليسلم من التلويث والدم أقبح من الطين قال‏:‏ والأول أقيس فإن العجز عن إزالة النجاسة لا يسقط وجوب الركوع والسجود كما قلنا في العجز عن السترة في العراة والفرق بين الدم والطين‏:‏ أن الطين يدخل في العينين والأنف فيشغل عن الصلاة، وإذا قلنا بالإيماء فقال ابن حبيب‏:‏ يومئ للركوع والسجود ويقوم ويقعد، وقال القاضي في المعونة‏:‏ يومئ للسجود ويأتي بالقيام والركوع قال‏:‏ وهو أطهر، وإذا صلى بإيماء انقطع الدم بعد الصلاة وقبل خروج الوقت، قال أعاد عند أشهب قال‏:‏ ويتخرج فيه قول أنه لا يعيد‏.‏ الثالث قال في الكتاب‏:‏ إذا رعف خلف الإمام وذهب لغسل الدم يصلي في أقرب المواضع، قال ابن القاسم‏:‏ وذلك إذا سلم الإمام إلا في الجمعة فإنه يرجع إلى المسجد، قال صاحب الطراز‏:‏ الرعاف على خلاف الأصل فيقتصر منه على الضرورة، وقول ابن القاسم يقتضي الرجوع ولو أدرك الإمام في التشهد لأجل فضيلة الجماعة التي التزمها في صلاته، وقال ابن شعبان‏:‏ إن رجا ركعة رجع وإلا فلا؛ لأن أقل من ذلك نافلة زائدة على الصلاة، ولا ضرورة إليها، قال‏:‏ فلو كانت صلاته في المسجد الحرام أو في مسجد المدينة رجع إليه ولو سلم الإمام لفضيلة البقعة عند مالك، وعلى قول ابن شعبان لا يرجع فإن قدر انصراف الإمام فأتم مكانه وتبين خطؤه، قال ابن القاسم‏:‏ تجزيه؛ لأنه عمل ما يجوز له من الاجتهاد، ولذلك يلزم إذا قدر بقاءه فأخطأ‏.‏

تنبيه‏:‏

تعارض هاهنا محذوران‏:‏ أحدهما أن مفارقة الإمام بعد التزام الصلاة معه لا تجوز، والثاني الحركات إلى الإمام فعل زائد في الصلاة لا يجوز ولابد للراعف من أحدهما بعد مفارقة الإمام فيحتاج إلى الخروج، فالمشهور مراعاة الأول ووجوب الرجوع لوجوه أحدها‏:‏ أن وجوب الاقتداء راجح بالاستصحاب؛ لثبوته قبل الرعاف، بخلاف الآخر، وثانيها أن الزيادة إنما تمنع وتفسد إذا كانت خالية من القربة، وهذه وسيلة للقربة في الاقتداء فتكون قربة، وثالثها أن هذه حالة ضرورة فتؤثر في عدم اعتبار الحركات، ولا تؤثر في ترك الاقتداء كما في صلاة الخوف فإن الرجوع جوزته الزيادة في صلاة الإمام بطول الانتظار؛ لأجل الاقتداء الذي لم يجب فكيف إذا وجب، وأما الجمعة فإنه يرجع إلى الجامع ولو علم انصراف الناس على ما في الكتاب؛ لأن الجامع من جملة شروطها فلا تصح دونه قال صاحب الطراز‏:‏ قال ابن شعبان‏:‏ إذا انصرف الناس أتم الجمعة في أدنى موضع يصلي فيه بصلاة الإمام؛ لأنه لو صلى، ثم أحدث صحت صلاته، ولأن المسجد إنما يجب عند استكمال الشروط وقد فاتت الجماعة والإمام فلا يجب الجامع، ولأنه لو أدرك أحد ثمة ركعة وهو مسبوق لأتمها ثمة منفردا، وكذلك الراعف، وابن القاسم يرى أن الأصل استقلال كل شرط بنفسه وأن صلاة المنفرد عن الجامع إنما تصح، لأجل اتصاله بالصفوف فهي ضرورة منفية هاهنا وإذا فرعنا على المشهور فحال بينه وبينه سيل يضيف إليها أخرى، ثم يصلي أربعا وهو يجري على أصل ابن القاسم فيمن نسي سجدة من أربع ركعات لا يدري من أيتها هي فيضيف إليها أخرى، مراعاة لقول ابن شعبان ويعيد أربعا؛ لعدم شرط الجمعة وهو المسجد فإن أتم في الجامع، ثم ذكر أن عليه سجدتي سهو، قال مالك‏:‏ اللتان قبل السلام لا يسجدهما إلا في الجامع، قال محمد‏:‏ وإن سجدهما في غيره لم يجزياه؛ لأنهما من نفس الجمعة‏.‏

الرابع‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا رعف في الجمعة بعد ركعة بسجدتيها، ثم رجع فوجد الإمام جالسا جلس معه وسلم، ثم قضى؛ لأنه مأموم بجب عليه الاتباع، والقضاء لا يكون إلا بعد سلام الإمام، وإذا لم يتم الأولى بسجدتيها ولم يرجع حتى فرغ الإمام ابتدأ ظهرا أربعا، قال صاحب الطراز‏:‏ وهذا متفق عليه بين أصحابنا بخلاف غير الجمعة؛ لأنه لو صلى بها جمعة لصلاها فذا وهو لا يجوز وإذا قلنا يبتدئ الظهر فهل يستأنف الإحرام ثلاثة أقوال‏:‏ يقطع عند مالك في سائر الصلوات؛ لأنه لا يعتد بما بعد الإحرام فلا يدخله في صلاته، ولا يقطع عند سحنون مطلقا؛ لأن إحرامه قد انعقد على فضل الجماعة وهو أعظم من مدرك التشهد الأخير مع الإمام، وسبق في غيره لاسيما قد يكون قد حضر القراءة أو الركوع، وهذه قربات لا ينبغي أن تهمل، وقد نقل ابن حزم الإجماع في أن المسبوق إذا لم يطمع في إدراك جماعة أخرى ولم يبق إلا التشهد فإنه مأمور بالدخول مع الجماعة فيه، وخيره أشهب لتعارض الأدلة، فإن فارقه بعد ركعة في الجمعة فلما عاد نسي أم القرآن حتى ركع قال ابن الماجشون‏:‏ يسجد قبل السلام وتجزئه، وقيل يبتدئ القراءة ويسجد بعد السلام، وكذلك الخلاف إذا ذكر بعد سجدة فإن لم يذكر حتى فرغ من تلك الركعة أجزأه عند ابن الماجشون سجدتا السهو، ويلغي تلك الركعة عند ابن عبد الحكم ويأتي بركعة وسجدة، وعند ابن القاسم يسجد قبل السلام ويعيد ظهرا أربعا؛ لوصول السهو نصف الصلاة فيسجد رجاء الإجزاء على قول من يرى ذلك ويعيد ظهرا؛ لأن الجمعة لا تصح من الفذ‏.‏ الخامس قال في الكتاب‏:‏ لا يبني على أقل من ركعة، ويلغي ما هو أقل منها ولو سجدة كانت الأولى أو غيرها منفردا كان أو مأموما، قال صاحب الطراز‏:‏ فيها أربعة أقوال‏:‏ يلغى أقل من الركعة مطلقا ولا يلغى شيئا مطلقا إلا في الجمعة، وقال أشهب‏:‏ الابتداء أحب إلي وإن بنى أجزأه، وقال ابن الماجشون‏:‏ إن رأى أن الأقل من الركعة في الأولى ألغاه، وإن كان في الثانية بنى عليه وجه المذهب قوله عليه السلام‏:‏ من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة‏.‏ وقياسا على أرباب الأعذار في أواخر الأوقات، وعلى المشهور وجه الثاني أن الرعاف لا يبطل الصلاة ويبني في القليل والكثير، وامتنع في الجمعة؛ لفوات الجماعة والإمام، اللذين هما شرط وجه التخيير تعارض الأدلة وجه الفرق القياس على الناعس مع الإمام فإنه يبني ويلحق الإمام في الثانية، بخلاف الأولى فإنه يلغيها، والفرق المشهور بينه وبين الناعس أن منافاة الرعاف للصلاة أشد من النعاس فإنه فيه مفارقة المكان والهيئة، وإذا قلنا يبني على القليل والكثير، فرعف وهو راكع أو ساجد رفع وخرج لغسل الدم قال ابن حبيب‏:‏ يجزئه هذا الرفع ولا يعود إلى ركوعه ولا سجوده‏.‏

قاعدة‏:‏

الموالاة شرط في الصلاة بالإجماع فلا يجوز أن يفرق بين ركعاتها، ولا بين أجزاء ركعاتها فمن لاحظ أن الرعاف مخل بها سوى بين الركعات وأجزائها؛ لأنه لا فرق ومن لاحظ أن الركعة الواحدة كالعبادة المستقلة والصلاة المنفردة؛ لأن الشرع قد خصصها بأحكام‏:‏ إدراك الأوقات، وفضيلة الجماعات والجهات، وتحصيل الأداء بإدراكها دون القضاء فصارت أولى بالموالاة في نفسها من جملة الصلاة، فلا يلزم من إهمال الموالاة في جملة الصلاة إهمالها في الركعة وهو المشهور‏.‏ السادس قال في الكتاب‏:‏ إذا فارق الإمام بعد التشهد وقبل السلام فإن رجع ووجد الإمام انصرف قعد وتشهد وسلم، وإن رعف بعد ما سلم الإمام سلم وأجزت عنه، قال صاحب الطراز‏:‏ معناه يرجع إلى طمع في إدراك الإمام والخلاف مع ابن شعبان على ما مر إن كان في جمعة أو في الحرمين، وقال سحنون‏:‏ إذا رعف بعد سلام الإمام لا يسلم حتى يغسل الدم إن كان كثيرا؛ لأن السلام ركن حجة المذهب أن وقوع السلام مع الرعاف أخف من العمل الكثير في الصلاة لإزالة الدم، قال في الكتاب‏:‏ ولو فارقه بعد سجدة من الأولى فوجده في ركوع الثانية لا يضيف سجدة لتلك السجدة، ويلغيها‏.‏ قال اللخمي‏:‏ يتخرج على قول أشهب فيمن أدرك الثانية من الجمعة وذكر بعد سلام الإمام أنه نسي سجدة أنه يسجد وتجزيه جمعته أنه يأتي بالسجدة وتجزئة الأولى، قال صاحب الطراز‏:‏ وليس كذلك؛ لأن الراعف عقد الإمام عليه ركعة فليس له البناء والناعس بخلاف الساهي عن سجدة حتى سلم الإمام فإن السلام عند أشهب ليس في حكم عقد ركعة، ووافقه المازري على الإنكار السابع قال في الكتاب‏:‏ إذا فارقه بعد ركعة من الظهر وعاد إليه في الرابعة يتبعه فيها ولا يقضي ما فاته حتى يفرغ الإمام لما في ذلك من المخالفة، وقد قال عليه السلام‏:‏ فلا تختلفوا عليه ‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏

قوله يقضي ما فاته فإنه يدل على أنه قضاء، وقال ابن حبيب‏:‏ يقرأ في الأولى بأم القرآن، ويقوم في الثانية بأم القرآن وحدها ولا يجلس بينهما؛ لأن الأولى ثالثة إمامة ويكون بانيا في الفعل قاضيا في القول، فيجتمع القضاء والبناء هاهنا في ثلاث صور إحداها‏:‏ تفوته الأولى ويصلي الثانية، وتفوته بقية الصلاة فعند ابن القاسم يبدأ بالبناء فيأتي بركعة بأم القرآن، ويجعلها ثانية، ثم يأتي بأخرى بأم القرآن ويجلس كما كان يفعل مع إمامه، ثم ركعة القضاء بأم القرآن وسورة، وعند سحنون يبدأ بالقضاء يأتي بالأولى بالحمد وسورة ويجلس، ثم بالرابعة بأم القرآن ويقوم، ثم بركعة القضاء ونظيره مقيم أدرك ركعة من صلاة المسافر، وهكذا يفعل عنده، وقال ابن المواز في المسألتين‏:‏ تصير صلاته كلها جلوسا والبناء أرجح؛ لأن حكم الأولى في المسبوق أن تؤخر إلى بعد الفراغ‏.‏ وثانيها تفوته الأولى ويصلي الوسطيين، ومن رعف في الرابعة فصلى قول ابن القاسم يبدأ بالرابعة وتكون ثالثة، ويجلس عند ابن القاسم ويقوم على القول الآخر، وعلى قول سحنون يقضي الأولى بالحمد وسورة‏.‏ وثالثها تفوته الأوليان ويصلي الثالثة وتفوته الرابعة فعلى قول ابن القاسم يأتى بركعة بالحمد وسورة وهي ثانية له فيجلس، ويأتي بركعتين متواليتين بالحمد لله وسورة وعند سحنون يأتي بالأوليين قبل الرابعة ويجلس بينهما كمن فاتته ركعة من المغرب الثامن إن فاتته الأولى، وأدرك الثانية ورعف في الثالثة وأدرك الرابعة، قال سحنون‏:‏ يأتي بالتي سبقه بها، ثم بالتي رعف فيها، وعلى قول ابن القاسم يبتدئ بالتي رعف فيها وهل يجلس لهما يأتي على حكم ما تقدم‏.‏ التاسع قال صاحب الطراز‏:‏ اختلف في الراعف في صلاة الجنازة والعيد، قال ابن المواز‏:‏ يرجع بعد الغسل إلى موضع الصلاة؛ لأن ذلك المكان من سننها ولو أتم في بيته أجزأه، وقال أشهب‏:‏ إن خاف فواتها لم ينصرف وإن لم يكن كبر على الجنازة شيئا ولا صلى ركعة من العيدين‏.‏ العاشر قال في الكتاب‏:‏ إذا قاء عامدا أو غير عامد استأنف الصلاة بخلاف الرعاف، قال صاحب الطراز‏:‏ القيء النجس الخارج عن صفة الطعام يبطل الصلاة على المشهور، وإن لم يتعمده‏.‏ والطاهر يتعلق بالمتعمد وغيره كما بين في الأكل والشرب، قال ابن القاسم في العتبية‏:‏ إن تقيأ بلغما أو قلسا فألقاه تمادى، وإن ابتلع القلس بعد ظهوره على لسانه فسدت صلاته، قال في المجموعة‏:‏ وإن كان سهوا بنى وسجد بعد السلام، قال صاحب الطراز‏:‏ ولو طرأ عليه القيء النجس هل يغسله عنه ويبني‏؟‏ فعند أشهب يبني فيه وفي غيره من النجاسات، وعند ابن شهاب يبني في القيء والرعاف خاصة وإن كانا عنده موجبين للوضوء والبناء والفرق بين الرعاف والقيء عندنا إن القيء فيه تفريط بسبب أن أسبابه تتقدم بحس الغثيان وغيره، بخلاف الرعاف‏.‏ الحادي عشر إذا ظن أنه رعف فخرج، ثم تبين عدم الرعاف فعند مالك لا يبني؛ لأنه مفرط، وعند سحنون يبني؛ لأنه فعل ما يجوز له قاله صاحب الطراز‏.‏ الثاني عشر قال‏:‏ لو افتتح الصلاة بالتيمم، ثم صب المطر وهو في الصلاة، ثم رعف غسل عنه الدم ولم يبطل صلاته فإن أحب قطع صلاته بالرعاف فتكلم، ولو وجد من الماء قدر ما يغسل به الدم فقط فهل تبطل صلاته لأن تيممه لم يبطل بصلاته بسبب اشتغاله بالغسل‏؟‏ أو لأنه يجب عليه اختبار الماء، هل يكفيه أم لا فتبطل صلاته بالطلب أو لا تبطل‏؟‏ وهو مذهب الشافعي‏.‏ الثالث عشر قال‏:‏ اتفق أصحابنا أن المأموم يبني في الرعاف لفضيلة الجماعة، وكذلك الإمام؛ لأنه واحد منهم وهو محتاج لفضيلة الجماعة، واختلفوا في الفذ فأجاز مالك له البناء ومحمد بن مسلمة؛ لأنه معنى لا يمنع البناء فيستوي فيه المصلون كالسلام من اثنتين ولأنه محتاج لتحصيل فضيلة أول الوقت، ومنعه ابن حبيب بناء على أن سبب الرخصة فضيلة الجماعة فقط، وأما الثوب ففي الجواهر إذا كان طرف عمامته على نجاسة قال عبد الحق‏:‏ إن كان يتحرك بحركته فهو مصل بالنجاسة وإلا فلا، وفي السليمانية يعيد في الوقت وإن كانت العمامة طويلة نظرا للاتصال ويجب صون الثياب، وما يلابسها عن النجاسات؛ صونا للعبادات عن دنيء الهيئات، وقال صاحب البيان‏:‏ إذا قطر على الإمام نجاسة في الصلاة ولم يكن عليه غير ذلك الثوب ولا معه غيره تمادى على صلاته ويعيد في الوقت، وإن وجد غيره خرج واستخلف فإن كان فذا قطع وابتدأ بالثوب الطاهر وإن كان عليه سواه فالقياس الاستخلاف للإمام والقطع للفذ، وقد روي عن مالك أن القطع أحب إليه؛ لأن عقبة بن أبي معيط طرح على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي سلا الجزور وغسلته فاطمة - رضي الله عنها - وتمادى على صلاته، وروي أنه فرث ودم ولا حجة فيه؛ لأنه في أول الإسلام وقبل تحريم ذبائح المشركين، والسلا وعاء الولد فهو كلحم الناقة المذكاة، وكذلك الفرث طاهر عندنا ولعل الدم الذي كان فيه يسير، قال صاحب الطراز‏:‏ إذا قلنا لا تجوز الصلاة بالعمامة المتصلة بالنجاسة فمن صلى ومعه حبل طرفه مربوط بميتة، فإن كان الحبل تحت قدميه فلا شيء عليه كالبساط، وإن كان مشدودا به ولم تجزه وهو قول ‏(‏ش‏)‏ ولو كان مربوطا في أذن دن خمر والأذن طاهرة لم ينفعه ذلك؛ لأن الأذن متصل بالنجاسة لو كان مربوطا بقارب فيه النجاسة، أو جرار خمر، أو القارب في ماء نجس فإن كان الرباط في موضع نجس لم يجزه، وإن كان متصلا بموضع طاهر ففيه نظر؛ لأنه لو مشى على جنب النهر لتحرك القارب بما فيه من النجاسة كدن الخمر، أو الميتة أو يقال‏:‏ إنما مسك القارب والنجاسة جاورته فهو كما لو ربطه في دابة واقفة على شيء نجس، وللشافعية هاهنا قولان‏:‏ فإن قلنا في الدابة لا تجزيه وكان مشدودا في رأس دابة وعليها رحل نجس فيظهر هاهنا أن لا شيء عليه؛ لأن الدابة لها فعل وهي التي تعد حاملة للنجاسة، بخلاف القارب فإنه بمنزلة العود المتنجس ولهذا تؤثر النجاسة التي تقوم فيها بخلاف النجاسة التي تقف عليها الدابة‏.‏

فرع‏:‏

في الكتاب إن صلى ومعه لحم ميتة أو عظمها أعاد في الوقت، وكذلك جلدها إذا دبغ، ولا يصلى على جلد حمار وإن ذكي، وتوقف في الكيمخت قال ابن يونس‏:‏ يريد صلى بلحمها ناسيا وبجلدها المدبوغ عامدا أو ناسيا وتوقف في الكيمخت؛ لأنه لم يزل في سيوف الصحابة وهم يصلون بها‏.‏

فائدة‏:‏

في التنبيهات‏:‏ الكيمخت بفتح الكاف بعدها ياء باثنتين من تحتها ساكنة وفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وآخره تاء باثنتين فوقها - وهو جلد الفرس - وشبهه غير مذكى فارسي استعمل‏.‏ وأما المكان فليكن كل ما يماسه عند القيام والسجود والجلوس طاهرا، وأما ما لا يلابسه فلا يضره، كما قال في الكتاب‏:‏ يجوز أن يصلي على طرف حصير بطرفه الآخر نجاسة، وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا كان موضع قدميه طاهرا صحت الصلاة، ولو كان موضع ركبتيه نجسا وفي الجبهة عنه روايتان بناء منه على أن الركبتين واليدين لا يجب السجود عليهما، وإنما يجب عند تطهير ما يجب السجود عليه ويرد عليه الثوب النجس الزائد الذي لا يجب لبسه مع فساد الصلاة به‏.‏

فائدة‏:‏

قال صاحب التلقين‏:‏ الجسد يجب تطهيره، وأما الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك النجس منه أو وجوب الإزالة إن اختاره أو وجب لبسه‏.‏ يريد أن الجسد إذا كان نجسا توجه الخطاب بإزالة النجاسة عنه؛ لتعذر فعل الصلاة بدونه، وأما الثوب فلا يجب تطهيره لحصول مقصود الشرع بالترك، فإن اختاره المكلف لسترته أو وجب لبسه لعدم غيره صار كالجسد تجب إزالة النجاسة عنه، وهذا بعينه يتجه في المكان ولم يذكره‏.‏ وفي الجواهر لو صلى على حصير ونحوه مما ينتقل وطرفه متصل بنجاسة ففي تنزيله منزلة المتصل بجسده قولان للمتأخرين قال‏:‏ واختار عبد الحق أنه لا يتنزل وهذا خلاف ما في الكتاب كما تقدم، والذي رأيته لعبد الحق خلاف هذا، وهو أنه لما ذكر مسألة الكتاب في الحصير وبينها قال‏:‏ وإن كان يتحرك موضع النجاسة فالمختار عن جماعة من شيوخنا أنه لا يضر، ومنهم من راعى تحريك موضع النجاسة وليس بصحيح‏.‏ وقولنا يتحرك بحركة المصلي مباين لقولنا هو مما يتنقل ولا يحسن تمثيله بالحصير فإنه يتنقل، ولا يتحرك بحركة المصلي‏.‏ ويلحق بالمكان النجس ما تكره الصلاة فيه، وهو أربعة عشر موضعا، أحدها قال في الكتاب‏:‏ لا بأس بالصلاة وأمامه جدار مرحاض‏.‏

قال صاحب الطراز‏:‏ إن كان ظاهرة طاهرا لا رشح فيه فلا يختلف في صحة الصلاة، وإن كانت مكروهة ابتداء؛ لأن المصلي ينبغي أن يكون على أحسن الهيات مستقبلا أفضل الجهات؛ لأنه يناجي الله تعالى، وقد قال ابن القاسم في العتبية‏:‏ إذا كان أمامه مجنون لا يتطهر أو صبي أو امرأة فليتنح عنهم، وكذلك الكافر فإن كان ظاهره يرشح فيختلف فيه، والمذهب أن صلاته صحيحة بغير إعادة، وقال ابن حبيب‏:‏ من تعمد الصلاة إلى نجاسة أمامه أعاد إلا أن تبعد جدا ويواريها عنه بشيء فقاس المصلى إليه على المصلى عليه ونحن نقيسها على ما على يمينه أو يساره أو خلفه‏.‏ وثانيها الثلج قال في الكتاب‏:‏ لا بأس بالصلاة على الثلج‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ يكره لفرط برودته المانعة من التمكن من السجود كالمكان الحرج‏.‏ وثالثها المقبرة، قال في الكتاب‏:‏ لا بأس بالصلاة إلى القبر وفي المقبرة، وبلغني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ومنع ابن حنبل من الصلاة إلى القبر وفي المقبرة‏.‏ والمقبرة تنقسم إلى مقبرة الكفار والمسلمين، وعلى التقديرين فإما أن يتيقن نبشها أو عدمه، أو يشك في ذلك فهذه ستة أقسام‏:‏ منع أحمد والشافعي جميع ذلك، واختلف قول أحمد في صحة الصلاة‏:‏ فمرة حمل النهي على التعبد لا على النجاسة فحكم بالصحة، وفرق ابن حبيب بين قبور المسلمين والمشركين فمنع من قبور المشركين؛ لأنه حفرة من حفر النار، وقال‏:‏ يعيد في العامرة أبدا في العمد والجهل لبقاء نبشها النجس، ولا يعيد في الداثرة لذهاب نبشها، وبين قبور المسلمين فلم يمنع كانت داثرة أو عامرة، قال صاحب الطراز‏:‏ ويحمل قوله في الكتاب على أن المقبرة لم تنبش، أما المنبوشة التي يخرج منها صديد الأموات وما في أمعائهم فلم يتكلم عليه مالك حجتنا أن مسجده - عليه السلام - كان مقبرة للمشركين فنبشها - عليه السلام - وجعل مسجده موضعها، ولأنه عليه السلام صلى على قبور الشهداء وهذه المسألة مبنية على تعارض الأصل، والغالب فرجح مالك الأصل وغيره الغالب، حجة المخالف ما في الترمذي‏:‏ نهى عليه السلام أن يصلى في سبعة مواضع‏:‏ في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وفي الحمام، وفوق ظهر بيت الله عز وجل‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏

لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏.‏ رابعها الحمام، قال في الكتاب‏:‏ إذا كان موضعه طاهرا فلا بأس به، وكرهه الشافعي والقاضي عبد الوهاب، ومنعه ابن حنبل مع سطحه، وجه المذهب قوله عليه السلام في مسلم‏:‏ وجعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ‏.‏

حجة الكراهة‏:‏

الحديث السابق، ولأنه موضع النجاسات، وكشف العورات‏.‏ خامسها‏:‏ أعطان الإبل أجاز في الكتاب الصلاة في مرابض الغنم والبقر، وقال‏:‏ لا خير في معاطن الإبل‏.‏ قال المازري‏:‏ وروي عن مالك لا يصلى فيها، ولو لم يجد غيرها ولو بسط عليها ثوبا‏.‏ وفي مسلم أن رجلا سأله عليه السلام فقال‏:‏ أصلي في مرابض الغنم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ أصلي في مبارك الإبل‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ وفي أبي داود صلوا في مرابض الغنم؛ فإنها بركة، ولا تصلوا في مبارك الإبل؛ فإنها من الشياطين‏.‏ واختلف في الفرق بينهما على ستة مذاهب‏:‏ فقيل لأن أهلها يستترون بها؛ لقضاء الحاجة وهو مذهب ابن القاسم وابن وهب وابن حبيب، وقيل لنفارها، وقيل لكثرة ترابها ووسخها فتمنع من تمام السجود، ومراح الغنم نظيف، وقيل لأنها تقصد السهول فتجتمع النجاسة فيها، والغنم تقصد الأرض الصلبة، وقيل لسوء رائحتها، والصلاة مأمور فيها بحسن الرائحة، ولذلك تبخر المساجد، وقيل لأنها خلقت من الشياطين، والصلاة يبعد بها عن مواضعهم‏.‏

فرع‏:‏

من صلى فيها قال أصبغ في الموازية‏:‏ يعيد في الوقت، وقال ابن حبيب‏:‏ يعيد أبدا في الجهل والعمد، وهو مبني على تعارض الأصل والغالب‏.‏

فائدة‏:‏

ربض البطن‏:‏ ما يلي الأرض من البعير والشاة، وجمعه أرباض‏.‏ والمربض‏:‏ موضع الربض، وجمعه مرابض والشاة في المربض تسمى ربيضا‏.‏ والعطن بفتح الطاء والمعطن بكسرها واحد الأعطان والمعاطن، وهي مبارك الإبل عند الماء لتشرب عللا وهو الشرب الثاني بعد نهل وهو الشرب الأول، وعطنت الإبل بالفتح تعطن بضم الطاء وكسرها عطونا إذا رويت، ثم بركت فهي إبل عاطنة، وعواطن وعطن الجلد تخليته في فرث وملح حتى ينتثر صوفه، وفلان واسع العطن أي‏:‏ رحب الذراع‏.‏ سادسها‏:‏ الكنائس كره في الكتاب الصلاة فيها؛ لنجاستها بأقدامهم وما يدخلونه فيها وللصور، وقال الحسن‏:‏ لأنها بنيت على غير التقوى، وقيل لأنها مأوى الشياطين، وقد خرج عليه السلام من الوادي؛ لأن به شيطانا، ولأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة، ولا خير في موضع لا تدخله الملائكة، قال صاحب الطراز‏:‏ إن عللنا بالصور لم نأمر بالإعادة وهو ظاهر المذهب، وإن عللنا بالنجاسة قال سحنون‏:‏ يعيد في الوقت، وعلى قول ابن حبيب يعيد أبدا في الجهل والعمد؛ لأنه أصله في كل موضع لا ينفك من النجاسات كالمجزرة والمزبلة وقارعة الطريق، قال صاحب البيان‏:‏ وأما الكنيسة الدارسة العافية من آثار أهلها فلا بأس بالصلاة فيها إذا اضطر إليها، وإلا فهي مكروهة على ظاهر مذهب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما روى مالك عنه أنه كره دخول الكنائس والصلاة فيها، ومع ذلك فلا تعاد في وقت ولا غيره‏.‏ سابعها‏:‏ قارعة الطريق كره في الكتاب الصلاة على قارعة الطريق لأرواث الدواب، قال صاحب الطراز‏:‏ والطريق القليلة الخاطر في الصحاري تخالف ذلك وكذلك لو كان في الطريق مكان مرتفع لا تصل إليه الدواب، وقد قال مالك في النوادر‏:‏ في مساجد في الأفنية تمشي عليها الكلاب والدجاج وغيرها لا بأس بالصلاة فيها، وفي البخاري عن ابن عمر قال‏:‏ كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت فتى شابا عزبا، وكانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك‏.‏ ثامنها في الجواهر المجزرة؛ لنجاستها واستقذارها‏.‏ تاسعها في الجواهر المزبلة‏:‏ لأنها موضع القمامات ومشتملة على القاذورات‏.‏ عاشرها في الجواهر‏:‏ بطن الوادي؛ لأن الأودية مأوى الشياطين‏.‏ حادي عشرها‏:‏ القبلة تكون فيها التماثيل، قال صاحب الطراز‏:‏ لا يختلف المذهب في كراهيتها اعتبارا بالأصنام فإن كانت في ستر على جدار الكعبة فأصل مالك الكراهة، وقال أشهب‏:‏ لا أكرهه لما جاء إلا ما كان رقما في ثوب وكره في الكتاب الصلاة بالخاتم فيه تمثال؛ لأنه من زي الأعاجم‏.‏ ثاني عشرها كره في الكتاب الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق أو غيرها، بخلاف الحجارة الكثيرة لشبهه بالأصنام‏.‏ ثالث عشرها قال في الكتاب‏:‏ لا يستند المريض لحائض ولا جنب، قال صاحب النكت‏:‏ قال ابن أبي زيد وهو محمول على أن أثوابهما نجسة نظرا إلى الغالب، أما إذا كانت طاهرة فلا ينهى عن ذلك، وقال صاحب التنبيهات‏:‏ قال في غير الكتاب يعيد في الوقت وأكثر شيوخنا على أنه باشر نجاسة في أثوابهما فكان كالمصلي عليها، وقال بعضهم‏:‏ بل هما معاونان بالاستناد إليهما فبهما يدخل في الصلاة، وهما لا تصح منهما الصلاة فلا يعينان فيها ويلزم على هذا أن يكون المستند متوضئا ولا قائل به، ورأيت في حاشية لبعض الكتب كان الشيخ ابن الفخار يفرق بين الحائض والجنب، ويقول‏:‏ الحائض لا تنفك عن النجاسة بخلاف الجنب وقال صاحب الطراز‏:‏ يحتمل أن يكون المنع لأجلها، لا لأجله؛ لأنهما لما منعا من الصلاة وتوابعها منعا من ملابسة المصلين ويحتمل أن يقال‏:‏ ورد في الحديث أن الملائكة لا تقرب الجنب وهو دليل على رداءة حاله، والحائض ملابسة للأقذار فنهي عن ملابستها كالمزبلة وقارعة الطريق، وإن فرش فيها الطاهر‏.‏ رابع عشرها قال المازري‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ من صلى في بيت نصراني أو مسلم لا يتنزه عن النجاسة أعاد أبدا‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ ستر العورة

والعورة‏:‏ الخلل في الثغر وغيره وما يتوقع منه ضرر، أعور المكان إذا صار ذا عورة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن بيوتنا عورة‏)‏ أي‏:‏ خالية يتوقع الفساد فيها فلذلك سميت السوءتان عورة؛ لأن كشفهما موجب خللا في حرمة مكشوفهما، والمرأة عورة؛ لأنه يتوقع من رؤيتها أو سماع كلامها خلل في الدين والعرض، وليس المراد بالعورة المستقبح فإن المرأة الجميلة تميل النفوس إليها، وبهذا يظهر أن المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل في حكم الستر وسائر مسائل العورة تخرج على هذا المعنى، وفي الجواهر‏:‏ وقع الاتفاق على وجوب ستر العورة عن أعين الناس وفي وجوبه في الخلوة قولان قال المازري‏:‏ هو مستحب عن أعين الملائكة، لما في الترمذي أنه عليه السلام قال‏:‏ إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي أحدكم إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم‏.‏ وأقل مراتبه الندب، وهل هو شرط في الصلاة يجب فيها ولها‏؟‏ قال ابن بشير‏:‏ المذهب على قول واحد في الوجوب وإنما الخلاف في وجوب إعادة الصلاة، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة‏.‏ قال صاحب القبس‏:‏ المشهور أنه ليس من شروط الصلاة وهذا محكي في الجواهر عن ابن بكير والقاضي أبي بكر‏.‏

حجة الشرطية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏خذوا زينتكم عند كل مسجد‏)‏‏.‏

قيل اللباس في الصلاة والطواف، وفي أبي داود قال عليه السلام‏:‏ لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار‏.‏ ولأن المصلي يناجي ربه فيشترط في حقه أفضل الهيئات والمكشوف العورة ليس كذلك‏.‏ حجة عدم الشرطية قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا‏)‏ الآية‏.‏ فلو وجب شيء آخر لذكره وفي أبي داود‏:‏ لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى فذكر الوضوء وقال‏:‏ لم يستقبل القبلة ومفهومه أن ذلك القدر كاف في القبول فلا يكون غيره واجبا‏.‏

ثم النظر في العورة ما هي وفي سائرها‏؟‏ أما العورة فثلاثة أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ الرجال، في الجواهر أجمعت الأمة على أن السوءتين من الرجال عورة وفي غيرها ثلاثة أقوال‏:‏ من السرة إلى الركبة، وهما غير داخلتين وهو مذهب العراقيين والشافعي، ووافقهم أبو حنيفة في السرة، وخالف في الركبة؛ لأنها مفصل وعظم الفخذ فيها وهو عورة فتكون عورة أو هما داخلتان، أو السوءتان فقط‏.‏ وروى أبو الفرج ما ظاهره أن جميع بدن الرجل عورة في الصلاة‏.‏ وجه المذهب ما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال لعلي‏:‏ غط فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت‏.‏ وجه الاقتصار على السوءتين ما في مسلم والبخاري‏:‏ أنه عليه السلام يوم خيبر انكشف الإزار عن فخذه، قال أنس‏:‏ حتى أني لأنظر إلى بياض فخذه عليه السلام‏.‏

قال صاحب الاستذكار‏:‏ حديث علي - رضي الله عنه - ضعيف والذي يقتضيه النظر أن العورة السوءتان، والفخذ والعانة حريم لهما‏.‏

القسم الثاني‏:‏ الإماء وهن مثل الرجال، قال في الكتاب‏:‏ شأن الأمة أن تصلي بغير قناع، قال صاحب الطراز‏:‏ اختلف في قوله شأنها هل معناه لا تندب إلى ذلك وهو الأظهر كالرجل، أو يجوز لها ذلك مع الندب للستر‏؟‏ وهو اختيار صاحب الجلاب وقد كان عمر - رضي الله عنه - يمنع الإماء من الإزار وقال لابنه‏:‏ ألم أخبر أن جاريتك خرجت في الإزار وتشبهت بالحرائر، ولو لقيتها لأوجعتها ضربا‏.‏

فائدة‏:‏

معنى نهي عمر - رضي الله عنه - الإماء عن تشبههن بالحرائر‏:‏ أن السفهاء جرت عادتهم بالتعرض للإماء دون الحرائر فخشي - رضي الله عنه - أن يلتبس الأمر فيتعرض السفهاء للحرائر ذوات الجلالة فتكون المفسدة أعظم، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين‏)‏ أي‏:‏ أن يتميزن بعلاماتهن عن غيرهن‏!‏ وألحق في الكتاب المكاتبة والمدبرة، والمعتق بعضها بالأمة القن، وأم الولد بالحرة، وألحق صاحب الجلاب المكاتبة بأم الولد في استحباب الستر، وألحق الشافعية الجميع بالأمة القن نظرا للميراث ونحن ننظر إلى عقود الحرية مع أنه قال في الكتاب‏:‏ لا تصلي الأمة إلا وعلى جسدها ثوب‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ والأمر بذلك متفق عليه، إنما الخلاف في الوجوب وسواء كانت من العلي أو الوخش، والمشهور عدم الوجوب‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ لو صلت الأمة مكشوفة الفخذ أعادت في الوقت، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها‏)‏ يقتضي العفو عن الوجه واليدين من الحرة؛ لأنه الذي يظهر عند الحركات للضرورة وعما يظهر من الأمة عند التقليب للشراء، وهو ما عدا السرة والركبة‏.‏

فرع‏:‏

قال صاحب الطراز‏:‏ لو أحرمت مكشوفة الساق أو نحوه مما يجوز لها كشفه فعتقت، فقيل تستر ذلك، وتتمادى إن كانت السترة قريبة وهو المشهور عندنا، فإن بعدت فقيل تتمادى، وقيل تقطع فإن قربت ولم تستر، فقال ابن القاسم‏:‏ تعيد في الوقت، وكذلك العريان خلافا لـ ‏(‏ح‏)‏ مفرقا بينهما فإن هذه حالة ضرورة بخلاف الأمة فإنها كانت يباح لها ذلك، وقال سحنون‏:‏ يقطعان، وقال أصبغ‏:‏ هي كالمتيمم يجد الماء في الصلاة لا إعادة عليها في الوقت ولا بعده‏.‏ وروى ابن القاسم أحب إلي لو جعلتها نافلة وشفعتها وسلمت، كمن سمع الإقامة، وقال مالك‏:‏ أحب إلي أن تعيد قال‏:‏ وكذلك الخلاف في الحرة يلقي الريح خمارها، والرجل يسقط إزاره قال ابن القاسم‏:‏ إذا سقط ثوب الإمام فظهر فرجه ودبره، أخذه مكانه وأجزأه إذا لم يبعد ذلك، قال سحنون‏:‏ ويعيد كل من نظر إلى فرجه ممن خلفه ولا شيء على من لم ينظر، وقال في كتاب ابنه‏:‏ صلاته وصلاتهم فاسدة وإن رده‏.‏ قال صاحب البيان‏:‏ بنى ابن القاسم على أصله أن ستر العورة سنة، وعلى القول الآخر بفريضيتها يخرج ويستخلف فإن تمادى فصلاة الجميع فاسدة، وهو قول سحنون قال‏:‏ وآمر من نظر بالإعادة؛ لأنه مرتكب لمعصية بالنظر، قال‏:‏ ويلزمه الإبطال بجميع وجوه العصيان وهو خلاف ما ذهب إليه التونسي من أنها تبطل لا بذلك، ولا بالسرقة، ولا بالغضب لو وقع في الصلاة، ولذلك قال المازري‏:‏ إن طرو اللباس على العريان والعتق على الأمة يتخرج على الخلاف في ستر العورة هل هي سنة وهي طريقة ابن القاسم، أو فريضة وهي طريقة سحنون‏؟‏ قال صاحب الطراز‏:‏ فلو عتقت قبل الصلاة ولم تعلم حتى صلت، قال أصبغ‏:‏ تعيد في الوقت كما قال ابن القاسم، وللشافعية قولان أحدهما‏:‏ كقولنا، والثاني تعيد أبدا؛ لأنها مفرطة‏.‏

القسم الثالث‏:‏ الحرائر، في الجواهر أجسادهن كلها عورة إلا الوجه والكفين قال في الكتاب‏:‏ إذا صلت بادية الشعر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت، وقال أشهب في المجموعة‏:‏ أو بعض الفخذ أو البطن، وقال ابن نافع في العتبية‏:‏ لا إعادة عليها، ووافقنا الشافعي في أن القدمين عورة، وخالفنا أبو حنيفة، لنا ما في الموطأ عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئلت ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب‏؟‏ فقالت‏:‏ تصلي في الخمار، والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها‏.‏ وقد رفعه أبو داود للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فروع خمسة‏:‏

الأول‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ إذا صلت متنقبة لا إعادة عليها‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ ذلك رأيي، والتلثم كذلك، ونهى الشافعي عنه، وأوجب ابن حنبل تغطية وجهها، وكفيها لنا أن ذلك ليس عورة في الإحرام فلا يكون عورة في الصلاة، ويستحب كشفه لمباشرة السجود والتلثم يستر الأنف، وفي الموطأ عن سالم بن عبد الله كان إذا رأى إنسانا يغطي فاه في الصلاة جبذ الثوب عنه حتى يكشف فاه‏.‏ قال صاحب الطراز‏:‏ ولمالك - رحمه الله - في كراهية تغطية اللحية قولان، وكرهه أبو حنيفة‏.‏

الثاني‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ المراهقة بمنزلة الكبيرة؛ لأن من أمر بالصلاة أمر بشروطها وفضائلها، فلو صلت بغير قناع قال أشهب في المجموعة‏:‏ تعيد في الوقت، وكذلك الصبي يصلي عريانا قال‏:‏ لو صليا بغير وضوء أعادا أبدا، وقال سحنون في كتاب ابنه‏:‏ لا يعيدان‏.‏

الثالث‏:‏ قال في الكتاب‏:‏ العاجزون عن الستر يصلون أفذاذا قياما متباعدين بعضهم عن بعض، وجماعة بإمام إن كانوا في ظلام‏.‏ ووافقنا الشافعي في تفرقهم وقيامهم وعدم إيمائهم بالسجود، وخيرهم أبو حنيفة بين القيام وبين الصلاة قعودا بإيماء، وقال ابن حنبل رضي الله عنهم أجمعين‏:‏ يجب القعود‏.‏ لنا النصوص الدالة على وجوب الركوع والسجود، وأنها أركان متفق عليها والسترة شرط مختلف فيه، والأركان مقدمة على الشروط، والمجمع عليه مقدم على المختلف فيه‏.‏

قاعدة‏:‏

الوسائل أبدا أخفض رتبة من المقاصد إجماعا، فمهما تعارضا تعين تقديم المقاصد على الوسائل، ولذلك قدمنا الصلاة على التوجه إلى الكعبة؛ لكونه شرطا ووسيلة، والصلاة مقصد ولذلك قدمنا الركوع والسجود اللذين هما مقصدان على السترة، التي هي وسيلة فلو جمعوا نهارا قال صاحب الطراز‏:‏ فعند ابن حبيب والشافعي يكونون صفا وإمامهم في صفهم، قال‏:‏ لأن الستر سقط عنهم بالعجز، والتباعد مستحب لما فيه من غض البصر قال‏:‏ فإن كثروا صفوا صفا آخر، وغضوا أبصارهم فلو كانت امرأة لم تجد مكانا تستتر به عن الرجال، قال مالك في العتبية‏:‏ تصلي جالسة وإن كانت خلوة صلت قائمة، قال صاحب الطراز‏:‏ فلو كانوا في مكان ضيق صلى الرجال وصرف النساء وجوههن عنهم، وصلى النساء وصرف الرجال وجوههم عنهن وهو قول الشافعي، فإن لم يكونوا ديانين فلا يكلف النساء القيام، ولا الركوع ولا السجود لما في ذلك من الضرر العظيم الذي لا يحتمله طباعهن‏.‏

الرابع‏:‏ قال صاحب الطراز‏:‏ لو كان في العراة صاحب ثوب لم يجز له العري واستحب له بعد صلاته دفع الثوب لغيره تعاونا على البر والتقوى، ولا يجب إذ لا يجب عليه كشف عورته، وقال بعض الشافعية إذا كان معه فضل سترة لا يلزمه دفعه، بخلاف فضل الطعام للمضطر؛ لأنه لا مندوحة عنه، والسترة سقطت بالعجز‏.‏

الخامس‏:‏ قال‏:‏ لو أعير له ثوب لزمه قبوله للقدرة على السترة كالماء للمتيمم، لقلة المنة في ذلك فلو وهب له فالشافعي لا يلزمه القبول، كهبة الرقبة في الكفارة ويلزمه، ويرده بعد صلاة، ويلزم ربه أخذه قال‏:‏ وهو الراجح فلو أعاره لجماعة والوقت ضيق صلى من لم يصل إليه عريانا، ويعيد إذا وصل إليه في الوقت الموسع، وقال الشافعي‏:‏ يؤخرون ما دام وقت الأداء متسعا فإن لم يعر المكتسي أحدا السترة وهو يصلح للإمامة امهم متقدما عليهم‏.‏